كلام الناس

 

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

 

حديث الناس عن شؤونهم أمر طبيعي ومُعتاد وضروري، وهو من القواعد الرئيسة التي تتبناها المُجتمعات وتبني بها أحوالها فتجبر الكسور وترتق الثغرات، لا سيَّما المعيشية والمادية بُغية إحداث تغيير، وما الحياةُ في مُعظمها إلّا عيشٌ ومادة إذا ما استقاما استتب المُقام.

ويكثر الحديث في مراحل المِحن أو عند المُلمَّات وتعلو الأصوات ولا يمكن تجاهلها، فهي النبض الأصيل لكل مُجتمع حي لا يستنكره إلا واهم، كما لا يُمكن استكراهها بالسكوت في ضرورات التريث والتأني إلى حين التثبُّت أو حتى تحين ساعة التأكيد وتبيان الحقيقة التي قد تطول. ومن المعروف أن الصبر الاجتماعي ذو صدرٍ ضيق ولا يمكنه حبس أنفاسه في أعماق الشدةِ لفترةٍ طويلة. 

فإذا ألمَّت مُصيبةٌ بأحدهم أو وقعت حادثة بناءً على مُسبباتٍ تمسُّ شريحةً واسعة من المجتمع، فمن البديهي جدًا أن تنبري لها الأقلام وصفًا وتحليلًا وتصدح بها أصوات كل من أصابته تلك المُسببات أو شيءٌ منها بفاقةٍ أو عوز، وسيأتي اتساع ردة الفعل على قدر الشريحة المُصابة. وقد تدفع تلك الحادثة بالفرد في المجتمع إلى تفريغ شُحنةٍ مكبوتةٍ أهلته للتنفيس عن مكنون نفسه، ولا بأس في الأمر فهو أهون من انفجارٍ ولَّده ضغط الكتمان بعد طول صبر. وربما كان يخشى الحديث قبل تلك الحادثة أو يشعر بضعف انفراده حول الحديث عن شأنه الخاص والذي لن يُحقق الهدف المنشود، حتى إذا حلَّت واقعةٌ وأجمع من كوتهم مُسبباتها بلذعةٍ أو وسمتهم بحروقٍ جاء كلامهم شارحًا لوضعهم وانعكاسًا لواقعهم، وباتت الواقعة مثالًا صلبًا لا يقبل التشكيك، ومدخلًا مناسبًا يعضدون به موقفهم على أمل إحداث التغيير المقصود في رسائل واضحة للنظر إلى أصل المُشكلة وأن وقت حلها قد حان.

لا شك سيظهر مُتحدثون من الجانب الآخر ممن لا يتفقون مع إجماع العامة وسيدحضون الفلسفة الرائجة في أطباق المُجتمع على مسألةٍ سائدة تُقلق معيشته. وهذه فئةٌ قليلة ربما لا تشعر بحجم تلك المُعاناة ولا يمكنها تقدير تأثيرها الحالي والبعيد، وإن حاولت تقمّص الدور العاطفي في تعبيرها، فتأخذ الحادثة عينها في السبب والمُسبب وتُقصي المجتمع باعتبار لا شأن له بالأمر، وإنما الحدث يتحمله الفاعل فقط ولا يتحمل أي طرفٍ آخر أية مسؤولية أو نتائج ضرر. وبالطبع هذه الفئة تعتمد على الظرفية الآنية لكل حدث مُهم وتعيد تدوير جملة الآراء في تحليلٍ يغلب عليه المنطق في المظهر ويراعي في عمومه الشكليات لكنه يُهمل الجوهر، ولن يجد ذلك التحليل قبولًا مهما بلغت صلابته وقناعته لأنه وبكل بساطة يجري عكس التيار وجاء في وقتٍ غير مُناسب. 

بين الجانب الأول وهو الأكبر في المُجتمع وبين القليل المُعارض في الجانب الثاني، ستنبُتُ بوادر مُحدثين يتوشحون الحكمة ويتمنطقون العقلانية في كل حدثٍ مفصلي ويفصحون بعدم التسرع والحديث حتى يأتيكم اليقين في وقتٍ بلغت فيه الحادثة مستوى الفاجعة في ظروفٍ يندى لها الجبين، وهولٍ تحجرت معه الدموع في مآقيها وضرب جفاء النوم أطنابه في العين. ويعودون بهموم الناس إلى المربع الأول مع أفضال الصبر القديمة والتقليدية بينما لا يظهر في اندياح الأفق بارقة فرج، ثم ضرورة التمسك بتلابيب الأمل المعقود على عقودٍ قادمة من الاحتمالات المُبهمة، وصولًا إلى معيشةِ الكفاف والرضا بالقليل والتخفف من ملذات الحياة الدنيا "وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ" (الأعلى: 17). وهذه الفئة المجهرية لا تعرف أين تضع نفسها وهي تسمع كل ما حولها وترى، ثم تتنكر له بممارسة وصاية النصح التنظيري المُمل دون أن تقدم رغيفًا، وكأنها تحقن في عضد المجتمع المُستصرخ جرعة مُسكِّن لم يعد له مفعول.

بات النجاح وتحقيق الأهداف يتخذ نمطية التسويق ويُربط بالتأميل والتصبير والوعد بما هو قادم، ولا اعتراض إذا كان المؤمل به سابقًا متحققًا لينتظر الناس الآمال والوعود الجديدة. بيد أن المُشكلة في الوعود والآمال السابقة غير ملموسة النتائج على المستوى الفردي إلا في النزر اليسير منها، فلا عجب أن خالج اليأس شعور بعض الناس وعادوا بتفضيل ذكريات القديم على طموحات القادم. وعليه فإن أخذ حالة المستوى الشعبي مُستبشرةً كانت أم مُستنكرة في موجبات الاعتبار ووضعها في نطاق التقييم، لأن المُجتمع هو المرآة النقية لنتائج الأهداف؛ سواءً تحققت أو لم تتحقق، وعدم انتظار الحوادث والكوارث لوضع الحلول التي ستكلف كثيرًا؛ بل إن توقع الأسوأ أحيانًا خير من البقاء في مشيئة الاحتمالات خصوصًا في التعامل مع المخاطر وهو الأوفر. 

سيبقى تنفيس المجتمع عن همومه هو التعبير الأكثر صدقًا وسموًا، وهو الحكم الأكثر عدلًا في القدرة على تحديد النجاح والفشل. وإن نبض المجتمع مع كل حادثة تصيبه أو تتشابه مسبباتها مع شريحةٍ كبيرةٍ منه هو حالة إيجابية وليست سلبية كما يصورها البعض. ولكن إذا اختل ذلك النبض فهو بالتأكيد تعبير عن حالة غير صحية أدت إلى عدم اتزانه، ومن المهم كشف السبب مُبكرًا. ولا شيء أقدر على تعيينه وتحديده أكثر من كلام الناس.

الأكثر قراءة

z